لم نكن جائعيـن تلك الليلة، عندما دخل أبي حجرتنا المعتمة وقال لأمي: قتلته. من هو، لم نعرف، لماذا؟ لم نعرف أيضاً. كل ما أعرفه أنني في تلك اللحظة شعرت بحُب لأبي لم أشعر به من قبل. في تلك اللحظة، وأنا أنظر إليه، عروقه النافرة، صوته الرصيـن، ثيابه الملطخة بالدم.
أذكر أن أمي، وبعد أن تحركت عيناها حركات صغيرة جعلت وجهها يتسع للذعر والبؤس والأمل، بعد لحظات من الصمت، نَظَرت إلى أخي الكبير واستمرت بالنظر إليه. بدأ أخي الصغير بالبكاء. كان بكاءً يختلف عن بكائه المعتاد. طلب أبي من أمي أن تُحـضّـر له ملابس نظيفة، مع أنه لم يملك إلا القميص الذي كان يرتديه وبنطاليـن. سمعت مرة أن أحدهما هدية من أخوه الذي لم أره قط. جلس أبي في الكرسي الوحيد في الغرفة يدخن سيجارة طويلة رفيعة لم أر مثلها من قبل. لم ينظر إلينا. أخذت عيناه تتفحصان تفاصيل الغرفة وتدرسان مقتنياتها. في العادة يتملكني الرعب عندما يفعل هذا لأنه سرعان ما يجد ما يستوجب الصفع أو الركل أو الشتيمة. ولكن كان هناك شيء مختلف في نظرته تلك الليلة. كان فيها هدوء وسلام لم أعهدهما من قبل. هدوء لم أعرف أنه كان موجوداً، ونهائية حاسمة أحسسنا بها جميعاً، سوى ربما أخي الصغير. ابتداءً من الليلة، سيتغير كل شيء. أبي لن يكون موجوداً. لن يكون جزءاً من حياتنا. هو شخص ترمّج لخانة الذكريات.
كان الصمت في الحجرة مُطبقاً وبدا كأن كل حركة يقوم بها أحدنا لن تُنسى أبداً. كأن هناك كتاباً تُسجّل فيه أدق حركاتنا. فركة عيـن، تغيير من وضعية الجلوس، حكة ساق. كلها حركات بدت وكأنها لا تليق بوقع اللحظات الثقيلة هذه. كأن فيها خرقاً لوقف للوقت تكالبنا كلنا على تطبيقه. كنت دوماً أسمع من أمي أن الحجرة صغيرة وأعتقد أنني الآن أفهم ما تعني. كنا كلنا جالسيـن نسمع أمي تتحرك وراءنا وهي تضع أشياء لم أعرف ما هي في خرخشة كيس بلاستيكي. ربما وضعت بعض المجلات التي كان والدي يخبئها ولا يسمح لأحد بلمسها. لم يصدر أي صوت سوى أصوات أشياء. في الخارج كان هناك شخصان يتجادلان ولكني أشك أن أحدهما سيضرب الآخر. عندي مدرسة غداً صباحاً. على الأغلب أن أمي ستنبه علي كالعادة أن لا أذكر ما يحدث الليلة. وأنني سأمتثل لأوامرها وسأحمي خصوصية العائلة بشراسة. حتى صديقي لا أطلعه على أصغر تفاصيل حياتنا. كثير ما أُسأل من أناس أعرفهم ولا أعرفهم: شو بيشتغل أبوك؟ وأرد: أعمال حرة. أحياناً تأتيني ابتسامة لا تعجبني، وفي أغلب الأحيان، لا يكون هناك تعليق. أحياناً يكون الأمر أكثر تعقيداً: ليش عينك زرقاء؟ ميـن ضربك؟ وعندها أردد، تماماً كما علمتني أمي - متناسياً كل مرةٍ الثغرات الواضحة في ردي - وأقول: وقعت عن البسكليت. أحيانا يأتيني الرد "بس إنت فيش عندك بسكليت". عندما يحدث ذلك فأنا أحياناً أختار الصمت والسير بعيداً، وأحيانا أخرى يتملكني شيء لا أفهمه وأنهال ضرباً على الشخص الذي يكون أمامي. أخي الكبير غالباً ما يأتي للدفاع عني وتمر الأمور على خير. نحن صحيح لسنا من عائلة كبيرة أو غنية، ولكننا اشتهرنا بشراستنا، ولذا يتردد الأولاد بالتطاول علينا. "مجانيـن" كانوا يقولون عن أخي وعني. كنا فعلاً مجانيـن. أذكر أن ولداً شتم أبي مرة وأني مسكته من رقبته. ضغطت على رقبته بذراعي وأحكمت القبضة. لم أكن غاضباً. كان هو في ألم شديد ولكني لم أكترث. اجتمع الأولاد حولنا في دائرة وطلب بعضهم مني أن أتركه. ولكن أحداً لم يقترب. استمريت هكذا ولم أتركه حتى لبى أوامري. أمرته أن يتكلم كبنت صغيرة، وأن يرجوني أن أتركه. عندما تركته كان يجهش ويبكي بِغُلّ. لم يأت إلى المدرسة لمدة أسبوع بعدها. من يومها والكل يناديه "سوسن". كان ينتابني شعور لا أفهمه عندما يسيء أحد إلينا. أرى كل شيء كبياض ساطع وحركات بطيئة. أتحول لحيوان صغير شرس لا يفهم حجماً أو عمراً أو مكانة. كنت أنقضّ على من يسيء لي ولا أتركه إلا باكياً مُدمّى.
في أحد الأيام سألني أحد الأولاد عن أمي، قال لي من وين أمك بتجيبلكو أكل؟ عندما عدت إلى البيت ذكرت لأمي ما حدث. صفعتني أمي وقالت لي ببطء وبصمت قصير بيـن كل كلمة وأخرى كأنها كلمات لا تكوّن جملة: بكرة. بالفرصة . بتلاقي. هذا الولد. وبتضربه. ثم أضافت: أو لا ترجع عالبيت.
خلع أبي قميصه وأعطاه لأمي. كان جسده قوياً صلباً وكان فيه آثار قديمة لإصابات لا أستطيع أن أتصور كيف حدثت. علامات على ظهره كنت أراها دوماً ولكني لم أجرؤ أبداً على السؤال عنها. عالم أبي قاس وموحش ولا مكان فيه للكلمات الزائدة. هو عالم الرجال. الرجال الذين لا يكترثون. أعادت أمي القميص إلى أبي حيث تحولت بقع الدم إلى بقع من الماء والصابون. لبس أبي قميصه دون أن ينهض عن الكرسي. لبسه وهو مبلل ولم يبدُ أن ذلك أزعجه. أنا أكره أن تكون ملابسي مبللة. خصوصاً إذا كانت جواربي. أحياناً، عندما تعطيني أمي جواربي في الصباح، تكون الجوارب رطبة، لأن أمي غسلتها في الليلة السابقة بينما أنا نائم. أخرج من البيت في غاية الضيق. ما أفعله هو أنني أخلع جواربي عندما أترك شارعنا. أخلعها وأضعها تحت الشمس. يطول الأمر أحياناً. وأحيانا يراني الميكانيكي في آخر الشارع ويقول لي: جيبهن. وآخذ له الجوارب - عندها أضطر لارتداء حذائي دون جوارب وهذا يزعجني أكثر - ويضعها لي على صفيح كبير من الحديد الساخن. تجف الجوارب في لحـظات. وعندما ألبسها تكون جافة ساخنة ويكون الأمر لذيذاً. أخي الكبير لا يكترث لهذا ويستمر في طريقه إلى المدرسة، ولكنه لا يقول لأمي أنني أخلع جواربي وأجففها. أمي عادت تفعل شيئاً ما في ركن الحجرة.
ما زال أبي يجلس في كرسيه ولكنه الآن يتأبط كيساً بلاسيتيكياً. كُلّنا جالسون وأمي واقفة، يداها تحت صدرها وفوق بطنها. جميلة أمي. جميلة وأنيقة رغماً عن أنف العالم. وقفتها في تلك اللحظة كأنها وقفة تنتظر رحيل ضيف بعد أن شرب قهوته. أو كأن فيها رجاء لتفسير. أو كأن فيها إيحاء لبدء حدث ما. أخي الكبير كان ذكياً وكان دوماً يعرف ما يجب فعله. أنا الآن أراه يتحرك في مكانه. كأنه ضاق ذرعاً بأمر ما أو كأن أحداً قد تطاول عليه ولم يعد يطيق صبراً. أبي جالس لا يتحرك. في وقت كهذا عادة ما تمده أمي بالشاي. ولكن أمي واقفة لا تتزحزح. اعتدل أخي في جلسته وشدّ ظهره وثنى ركبته بحيث وصلت أمام صدره وتحت وجهه. هي جلسة لم أعتدها منه. أبي ما زال جالساً صامتاً. أخي الصغير لم يعد يبكي. “ياللا يابا" قال أخي الكبير.
التفت أبي حوله ببطء وكأنه لم يعرف من أين أتى الصوت، وكأنه لا يعرف الصوت أصلاً. نحن قلما تكلمنا أمام أبي وليس بعيداً أنه لم يألف أصواتنا. ولكن كلمات أخي جاءت واضحة: ياللا يابا. عندما أتذكر تلك اللحظات الآن تسري رعشة في بدني. أنا أكيد أن الأمر باغت أبي، ولكن في ملامحه لم تكن لتقرأ شيئاً يشبه المفاجأة. كان يتصرف كأن كل ما يحدث حدث مئات المرات من قبل، أو أنه قد تم الاتفاق عليه مسبقاً بشكل ما، أو أن هذه هي مجرد الطبيعة الأزلية لحدوث الأشياء.
نهض أبي عن كرسيه ونظر حوله. نظر إلي وإلى أخي الصغير. نظر إلينا ولكنه لم يلاقي أعيننا. مشى نحو أخي الكبير ووقف أمامه للحظة، ثم صفعه. صفعات أبي قوية ثقيلة تتركك بطنيـن في الأذن وحرارة وخدر يتغلفان خدك وأذنك وأحياناً عينك. لم تتحرك أمي ولم يتحرك أخي بعد أن استعاد توازنه. سار أبي نحو الباب الحديدي. أغلقه وراءه بهدوء.
في تلك الليلة بكت أمي قليلاً، ولم نلعب أنا وأخي قبل نومنا ألعابنا الصامتة المعتادة. في تلك الليلة نمت دون قلق. ولم يبكِ أخي الصغير كثيراً. قبل أن ننام قالت أمي لأخي الكبير أن يأخذ الكرسي ويبيعه في السوق، وأن يعود إليها بثمنه فوراً. قالت لنا أننا لن نذهب إلى المدرسة في اليوم التالي. أننا سنأخذ إجازة لبضعة أيام. أننا سنذهب لزيارة أخوالي لبضعة أيام. قالت أنه يجب علينا أن نحميَ بعضنا، وأن نقول أن أبي على سفر.
لا أعرف لماذا شعرت بالحب لأبي في تلك الليلة. ناظـراً إلى الأمر الآن أعتقد أنني شعرت أن هذا رجل ظهر على حقيقته. أن تلك الحياة التي كان يحاول أن يقودها لم تكن له. نعم، في تلك الليلة أحببت ذلك الرجل المنتصر في هزيمته. ذلك الرجل المنافي للحياة الأليفة. أحببته في تلك الليلة لأن شيئاً ما عرف في داخلي أنني لن أعاني أهواله وشياطينه بعد الآن، وأنه سيُترك وحيداً، على قارعة الطريق، يعانيها إلى الأبد.
أذكر أنني في اليوم التالي بحثت عن مجلات أبي، ولكني لم أجدها. أذكر أنني على مرّ السنيـن بدأت أفهم أن هناك هؤلاء الذين رأو من العالم بشاعة يستحيل إنقاذهم منها. أبي من هؤلاء. هي معهم في كل نَـفَـسٍ، في كل رمشة عيـن، في كل لقمة من طبقهم المفضل. بقاؤهم على قيد الحياة هو مجرد إطالة لبؤس لا يستحقه أحد. والحياة قربهم هي تذكير دائم أن البشاعة موجودة هنا، وهناك، وهناك. أنها قريبة، تختبئ في ثنايا الطريق.